الانتخابات الأمريكية- مستقبل العلاقات التركية على المحك، بين ترامب وبايدن

تُعتبر الانتخابات الرئاسية الأمريكية الراهنة منعطفًا تاريخيًا حاسمًا، ومحطة فاصلة تتسم بأهمية استثنائية لم تشهدها الولايات المتحدة منذ عقود طويلة، وذلك نظرًا لما يترتب عليها من تداعيات عميقة التأثير، وما ستخلفه من آثار واسعة النطاق على الساحة الدولية، في ظل الظروف السياسية والاقتصادية المتشابكة التي يشهدها العالم.
إن الفائز في هذه الانتخابات المصيرية لن يؤثر بقراراته وسياساته على الداخل الأمريكي فحسب، بل سيمتد تأثيره ليشمل مختلف دول العالم، لا سيما تلك التي تقع في بؤر التوتر والصراعات المتأججة، حيث ستكون قراراته بمثابة بوصلة تحدد مسار الأحداث وتوجهها.
وتقف تركيا في مقدمة الدول التي تترقب باهتمام بالغ نتائج هذه الانتخابات، وتنتظر الرئيس القادم لكي تحدد على ضوء ذلك مسارها واتجاهاتها في العديد من الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشترك بين البلدين، والتي تمثل في الوقت ذاته نقاط التقاء أو اختلاف بينهما.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsترامب يوقع أمرا تنفيذيا لإلغاء وزارة التعليم
"مبعوث يسوع".. هل سيُدخل ترامب أميركا عصر الهيمنة المسيحية؟
وعلى الرغم من أنه لم يكن من المتوقع أن يصدر موقف رسمي معلن من جانب أنقرة بشأن المرشح الذي تفضله، إلا أن مواقف المرشحين المتنافسين، دونالد ترامب وكامالا هاريس، تجاه بعض الملفات الحيوية التي توليها تركيا اهتمامًا بالغًا، ستشكل بلا شك عاملاً حاسمًا ومرجحًا في حسابات صانع القرار في أنقرة، وستؤثر في نهاية المطاف على القرارات التي ستتخذها تركيا.
الديمقراطيون وانقلابات تركيا
لقد شهدت تركيا منذ عام 1960 سلسلة من الانقلابات العسكرية المتتالية التي تركت بصمات قاسية وآثارًا مدمرة على مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية في البلاد، ولا تزال تركيا تعاني من تداعياتها وتبعاتها السلبية حتى يومنا هذا. ومن اللافت للنظر أن الحزب الديمقراطي الأمريكي كان حاضرًا بشكل أو بآخر في معظم هذه الانقلابات أو في التداعيات الناجمة عنها.
رئيس الوزراء الراحل عدنان مندريس، الذي أطاح به انقلاب عسكري غاشم في شهر مايو/أيار من عام 1960، أُعدم في شهر سبتمبر/أيلول من عام 1961، تزامنًا مع فترة ولاية الرئيس الديمقراطي جون كينيدي. ورغم النفوذ القوي والمكانة المرموقة التي كانت تتمتع بها الإدارة الديمقراطية آنذاك داخل تركيا، وخاصة في الأوساط العسكرية، إلا أنها لم تبذل أي جهد يذكر للحيلولة دون إعدام رئيس وزراء منتخب بطريقة ديمقراطية واثنين من وزرائه.
أما انقلاب سبتمبر/أيلول عام 1980، الذي نفذه قائد الجيش آنذاك كنعان إيفرين، فقد وقع في فترة رئاسة الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر.
وتزامنت فترة ولاية الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون مع انقلاب 28 فبراير/شباط عام 1997، الذي أطاح بالحكومة الائتلافية المنتخبة التي كان يتزعمها نجم الدين أربكان.
وفي عهد الرئيس باراك أوباما ونائبه جو بايدن، مرت تركيا بفترة عصيبة شهدت اضطرابات أمنية جسيمة تراوحت ما بين محاولات انقلابية ناعمة وخشنة، وما بين المساعي الحثيثة لتأسيس ممر انفصالي لتنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK) على امتداد الحدود السورية التركية.
فعلى سبيل المثال، تحولت مظاهرات ميدان تقسيم التي اندلعت في شهر مايو/أيار من عام 2013 إلى محاولة انقلابية للإطاحة بحكومة رئيس الوزراء آنذاك، رجب طيب أردوغان. ثم تلت ذلك محاولات الانقلاب القضائية – التي تتهم أنقرة تنظيم فتح الله غولن بالوقوف خلفها والتخطيط لها – في شهر ديسمبر/كانون الأول من عام 2013، والتي كانت تهدف إلى اعتقال أردوغان وعدد من الوزراء وكبار المسؤولين بتهمة الفساد. وصولًا إلى المحاولة الانقلابية الفاشلة التي وقعت ليلة 15 يوليو/تموز من عام 2016، والتي اتهمت أنقرة صراحةً إدارة أوباما بالتورط فيها.
ومما يزيد من حدة التوتر في العلاقة بين البلدين في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، اضطرار نائبه آنذاك جو بايدن إلى تقديم اعتذار رسمي لتركيا مرتين: الأولى في عام 2014 عندما اتهمها بدعم تنظيم الدولة، والثانية عندما زار أنقرة بعد مرور أكثر من شهرين على محاولة انقلاب عام 2016 الفاشلة، معتذرًا عن تأخره في إظهار الدعم والمساندة لتركيا في مواجهة المحاولة الانقلابية.
هذه التجارب المريرة والمتراكمة خلفت لدى أنقرة حساسية مفرطة تجاه الإدارات الديمقراطية، وجعلتها خيارًا غير مفضل لديها، بل ربما خيارًا غير مرغوب فيه بالمرة.
الحرب على الإرهاب
يمثل دعم تنظيم حزب العمال الكردستاني (PKK)، سواء من قِبل جهات خارجية أو داخلية، إحدى أهم القضايا الحساسة التي تثير قلق الدولة التركية. وقد شهدنا جميعًا كيف عرقلت أنقرة منح السويد وفنلندا الموافقة الرسمية على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) حتى تتعهد الدولتان بالامتناع عن تقديم أي دعم سياسي أو إعلامي أو مادي للتنظيم.
إن إنشاء قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2015 بدعم سخي من وزارة الدفاع الأمريكية في عهد الرئيس أوباما، بذريعة محاربة تنظيم الدولة، قد أحدث شرخًا عميقًا وتصدعًا كبيرًا في العلاقات التركية الأمريكية. إذ تؤكد أنقرة مرارًا وتكرارًا أن هذه القوات ليست سوى واجهة مقنعة لتنظيم حزب العمال الكردستاني، حتى مع وجود مكونات عرقية أخرى من ضمن عناصرها، وذلك نظرًا للهيمنة المطلقة لقوات الحماية الكردية عليها.
أيضًا، فإن رد الفعل الأمريكي تجاه المخاوف التركية المتزايدة من نشاط حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا، تحت ستار تنظيمات أخرى مثل وحدات الحماية الكردية (YPG)، لم يكن على نفس القدر من الاهتمام والجدية. ففي فترة ولاية الرئيس ترامب الأولى، وجدت أنقرة تفهمًا لعملياتها العسكرية ضد التنظيم، ونتيجة لذلك شنت عمليتي "غصن الزيتون" في شهر يناير/كانون الثاني من عام 2018، وعملية "نبع السلام" في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2019.
إلا أن هاتين العمليتين العسكريتين لم تنجحا في القضاء بشكل كامل على مخاوف تركيا الأمنية، وهو ما دفع الرئيس أردوغان إلى الإعلان قبل أكثر من عامين عن الحاجة الملحة لتنفيذ عملية عسكرية جديدة تهدف إلى "إنشاء منطقة آمنة على عمق 30 كيلومترًا جنوب الحدود التركية، وتطهير منطقتي تل رفعت ومنبج من العناصر الإرهابية".
هذا الأمر قوبل في حينه بتحذيرات شديدة اللهجة من جانب واشنطن، حيث أعرب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن عن قلقه من أن هذه الخطوة قد تقوض الاستقرار الإقليمي. وحتى الآن لم تتمكن تركيا من شن عملية عسكرية في شمال سوريا على النحو الذي كانت تطمح إليه. لذا، تأمل تركيا في أن تمنحها ولاية الرئيس ترامب الجديدة، في حال فوزه بالانتخابات، الفرصة مرة أخرى لشن عملية عسكرية واسعة النطاق غرب نهر الفرات، وإنشاء منطقة أمنية بعمق يتراوح ما بين 30 إلى 40 كيلومترًا.
الحرب الأوكرانية
يُعد وقف الحرب الأوكرانية من أهم الوعود الانتخابية التي أطلقها الرئيس ترامب، حيث أكد عزمه على العمل بكل ما أوتي من قوة للحيلولة دون اندلاع حرب عالمية ثالثة. هذا الوعد يمثل نقيضًا واضحًا للإستراتيجية التي تتبناها الإدارة الديمقراطية الحالية، والتي تعتبر هزيمة روسيا هدفًا رئيسيًا تسعى إلى تحقيقه بكل إصرار وعزيمة.
وهنا تتلاقى رؤية ترامب مع رغبة تركيا التي تسعى جاهدة منذ اندلاع الصراع إلى وقف الحرب وإحلال السلام عبر المفاوضات والحوار. يضاف إلى ذلك أن السياسة التركية قد اتخذت منذ البداية موقفًا متوازنًا وحياديًا تجاه الطرفين المتنازعين، حيث حافظت على علاقات جيدة مع كل من موسكو وكييف، وعملت على منع تحول البحر الأسود إلى "شرق أوسط" جديد، على حد تعبير مسؤولين أتراك.
لذا، فإن المخاوف التركية الإستراتيجية المشروعة من استمرار الحرب وتوسع نطاقها بسبب موقعها الجغرافي المتميز لن يتبدد إلا من خلال وقف فوري وشامل لإطلاق النار، وهو ما يحمله ترامب معه ويؤكد عليه باستمرار خلال حملته الانتخابية.
مواجهة المثليين
تعتبر مواجهة الأيديولوجية "المثلية" وجماعات الضغط الداعمة لها إحدى أهم الأولويات التي تتبناها الدولة التركية، بل إن الرئيس أردوغان قد عدّها وعدًا انتخابيًا قطعه على نفسه خلال حملته الرئاسية في العام الماضي.
وقد ازدادت الحاجة إلى هذه المواجهة بعد إعلان الرئيس أردوغان في شهر مايو/أيار الماضي عن انخفاض معدل الإنجاب في تركيا إلى حوالي 1.51٪، واعتبره تهديدًا وجوديًا لمستقبل البلاد.
إلا أن تركيا، التي تطمح إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، تواجه ضغوطًا هائلة من الأوروبيين، الذين يعتبرون من أكبر الداعمين لتلك المجموعات، من أجل منح "المثليين" المزيد من الحريات والحقوق داخل البلاد.
وفي الولايات المتحدة، لم تكتفِ إدارة بايدن بدعم المثليين، بل تصدت بكل قوة لأشكال وأنماط الرفض لهذا التيار، ووصل الأمر إلى حد التهديد بفرض عقوبات اقتصادية وتجارية على الدول التي تتبنى سياسات مناهضة للمثليين.
من هذا المنطلق، تمثل رؤية ترامب الرافضة للمثلية خيارًا مناسبًا لتركيا لتوسيع نطاق مواجهتها ومكافحتها لتلك الأيديولوجية.
الخلاف موجود
وعلى الرغم مما سبق ذكره، فإن فوز ترامب في الانتخابات لا يعني بالضرورة تطابقًا تامًا في وجهات النظر بينه وبين أنقرة، فقد اتسمت علاقته بتركيا – خلال ولايته الأولى – بالتوتر والتقلبات الشديدة. فقد أظهر تفهمًا لتحركات أنقرة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط وفي الأزمة الليبية.
إلا أن أزمات عنيفة نشبت بين الطرفين، مثل أزمة القس أندرو برونسون الذي احتجزته أنقرة لمدة عامين، وكذلك أزمة شراء أنقرة لمنظومة الدفاع الصاروخي الروسية المتطورة "إس-400"، والتي عوقبت على إثرها باستبعادها من البرنامج المشترك لصناعة طائرات "إف-35" المقاتلة.
وهذه الوضعية مرشحة للتكرار في حال فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، إذ من المتوقع أن تتفق معه أنقرة في بعض الملفات والقضايا المهمة، وتختلف معه في قضايا أخرى، خاصة إذا ما استمر العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة والأراضي اللبنانية، وإذا أصر البنتاغون على مواصلة دعمه لوحدات الحماية الكردية في شمال سوريا.
لكنه في نهاية المطاف يظل الخيار الأقل سوءًا والأكثر ملاءمة بالنسبة لتركيا.